[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص أعده الكاتب جولان حاجي لمجلة "جدلية" . اضغط/ي هنا للإطلاع على بقية مواد الملف]
قصائد إلى فدوى سليمان
مارلين هاكر
ترجمة: جولان حاجي
في حين كان المطرُ نفسهُ يهمي
على ضواحي منفيّين
وأطفالٍ فقدوا أمهاتهم،
الذين كانت شجاعتُهم يقيناً،
الذين صار نفادُ صبرهم شكّاً،
ولجَتِ الباب
كرفيقةٍ، عاشقة، صديقة،
وخلعتْ حذاءها-
أكبرُ من ابنتي لكنها
أيفع من أن تكون أختي.
*
شقيقةُ مَن أكرهوه
ليتبرّأ منها
على التلفزيون:
الداعية إلى السلم بالكوفيّة،
وهم بأيديهم البنادق-
كانت بنفادِ صبرٍ تلفُّ
سجائرَ منفاها، وكتبتْ
حكاياتِ المأتم:
الأمُّ أودعتِ الطفلةَ
في سريرها، وذبحتْ طير الحمام.
*
عنقٌ ذبيح، شمسٌ مقطوعةُ العنق
المعاصم الممزَّقة للمطر مطلعَ الربيع.
الذئاب على مبعدة
تهجر شعرَ المدائح
وتعوي كالسياسيين.
هل الأملُ مرضٌ
مُميت، أم تُراه اليأس؟
العجوزُ جزّتْ
شعرَها الشائب قصيراً كشعرِ صبيّ،
جبلتِ العجينَ بالنبيذ كالصلصال.
*
كانت الكلماتُ صلصالاً ونبيذاً،
ما تخيلتُه
كانت عن ظهر قلبٍ تعرفهُ وتُلقيه.
الصبيُّ الذي وقف إلى جوارها
بات الآن قاتلاً أو قتيلاً.
حملوا تابوتاً من الورق المقوَّى،
برجَ الساعة من الورق المقوَّى
عند تقاطعٍ
في شوارع باريس، حيث صوتها
خارج مكانه.
*
دمٌ في البستان،
أو ذكرى دم،
أغنيةٌ عنه:
رعاةٌ في كلِّ القصص،
الخيانة في معظم أحلامك.
نزهةٌ في بستان
حيث قطفتِ فاكهة دانية تتدلّى
أو هززتِ الزيتون
في طفولة قرنٍ
آخر، قبل الفراقات.
*
كم كان عمر الطفل،
ابنها، عندما رأته آخر مرة؟
خيارها، قصتها...
لكن خمس سنين انقضتِ الآن،
الصبي يقترب من المراهقة،
مثلما كانت ابنتي
بعمر اثني عشر عاماً ونصف،
ثلاثة عشر عاماً في بساتين
تعود إلى قرى جبال أخرى،
إلى تصاريف أخرى للخسران.
*
لا أقبل الالتفاف
أو الدوران في دوّامة
قصةِ شخص آخر.
لا أريد لتلك القصيدة أن تنتهي،
ليس بمستطاعي أن أعرف كيف بدأت.
في ساقيَّ أثقالٌ من رصاص-
لأنني لم أمُتْ شابة
أدركتني الشيخوخة،
وجهاً يفزع الأطفال
بعينيه المفزوعتين.
*
-لمّا-
لمّا سُجِن الأولادُ في زنزانةٍ مع المُجرمين وعُذِّبوا
سكتتِ الذئبةُ العجوز التي كانت تروي الحكايات
لمّا تظاهر الشبّانُ والشابّات في الشوارع وهم يغنُّون
وأطلقَ إخوتهم النارَ عليهم، أطبقَ الكلبُ الذي يحبُّ القراءةَ كتابَه
لمّا تصرّف الشعبُ كالخراف، توقّفتِ الهرّةُ المحتالة
عن الاستهزاء بالخراف وأشفقتْ عليهم
لمّا أصبح المتمرّدون موظَّفين، اختبأ القنفذُ تحت
صخرتِه وتوقّفَ عن مشاجرةِ رفاقه
الحصانُ العجوزُ في السُّوق لم يعُدْ يتكلّمُ عن الليل
والبيداء فأوصاله تُقَطَّعُ أمام دكان اللحّام
لمّا راحَ الثوّار في دربِ اللاجئين، طوتِ الذئبةُ الفتيّة رداءَ حجّها
ودفَنَتْهُ تحت شجرةٍ ولم تكتبْ بعد ذلك في دفترِ أسفارها
ومزَّقَ التلاميذُ كتبَهم المدرسية وذبحوا عنزةً والتهموها
لمّا صار البهلولُ رئيساً والظالمُ بطلاً، مسحتِ المغنّيةُ الغريبة
زينةَ وجهها ونزلتِ إلى الشارع لتنضمَّ إلى المتسوّلين
عوى على الجبل الذئبُ الذي كان قد أنشد
قصائدَ فيما مضى وأعوى معه المعلّمُ والشاعر
لمّا مرضتِ الشجاعةُ التي كانت قد أحرقت
الدربَ وراءها وجمعتْ أمامها ناسَ الحرب وناسَ السِّلم،
لما مرضتْ بخيبتِها ونفادِ صبرها، أطبقتُ القواميس ونسيتُ كلَّ الكلمات
*
-بانتوم-
قالتِ العجوزُ التي لا تكاد تتكلم اللغة:
الحريةُ حلم، ولا نعرفُ حلمُ مَن.
قالتِ المتمرّدة، المنفيّة الآن:
عندما شرعتُ بكتابةِ القصة بدأتُ أنزف.
الحرية حلمٌ، ولا نعرفُ حلمُ مَن-
ذاك الرجل الذي رأيتُه يخطب آخر مرة قدّام برج الساعة
عندما شرعتُ بكتابة القصة؟ بدأتُ أنزف
بعد خمس سنين من معرفتي إني لن أنجبَ أطفالاً آخرين.
ذاك الرجل الذي رأيتُه يخطب آخر مرة قدّام برج الساعة
انعطف عند ناصية أحد الشوارع واختفى.
بعد خمس سنين من معرفتي إني لن أنجبَ أطفالاً آخرين
استُدعي ابني البكر إلى الجيش،
انعطف عند ناصية أحد الشوارع واختفى.
ابن أخي، صديقتي الأعزّ، أختي الثانيةُ
التي استُدعي ابنها البِكر إلى الجيش،
يبحثون الآن عن عملٍ في بلدانٍ أخرى.
ابن أخيها، صديقته الأعزّ، أختهُ الصغيرة،
طبيبٌ، ممثّلة، مهندِسة،
يبحثون الآن عن عملٍ في بلدانٍ أخرى
متعثّرين، مخذولين، في لغة جديدة.
طبيبةٌ، ممثّلٌ، مهندسٌ
يصارعون مبادئَ النحو
متعثّرين، مخذولين، في لغة جديدة،
مُبغِضين حظَّهم، ومُدركين أنهم محظوظون.
مُصارِعةً مبادئَ النحو،
العجوز، التي لا تكاد تتكلّم اللغة،
أبغضتْ حظَّها. أعرف أني محظوظة،
قالتِ المتمرّدة، المنفية الآن.
ملاحظات:
- بالاتفاق مع الناشر (دار المنار، باريس) اختيرت قصائد من ديوان "في العتمة المبهرة" الذي صدر، باللغتين العربية والفرنسية، قبل رحيل فدوى سليمان ببضعة أسابيع.
-مارلين هاكر، الشاعرة الأمريكية المقيمة في باريس، كتبت قصيدة "لمّا" باللغة العربية، وراجعتها معها فدوى سليمان.
-البانتوم شكل شعري شهد رواجاً في الشعر الغربي منذ القرن التاسع عشر بعدما استخدمه فكتور هوغو وشارل بودلير، وتعود أصوله إلى ماليزيا حيث كان يغنَّى منذ القرن الخامس عشر، كقصيدة فولكلورية قصيرة تتألف من أربعة أبيات مقفّاة. أما البانتوم المعاصرة، في الأدبين الإنكليزي والأمريكي على سبيل المثال، فمتباينة الطول، ويتألف كل مقطع فيها من أربعة أبيات البيتان الثاني والرابع يتكرران في البيتين الأول والثالث من المقطع الذي يليه، وهكذا دواليك حتى نهاية القصيدة. تطرأ تحولات طفيفة أحياناً عند تكرار الأبيات، وقد تستخدم علامات الترقيم في تغيير المعاني.